كيف يمكن للتعليم أن يُحصِّن العقل ضد الأيديولوجيات المتطرفة؟

No Image

أسامة محمد إبراهيم

إبداع

13

 لا يزال العالم مصاباً بآفة الأيديولوجيات المتطرفة. يقال عادة إن أحد الحلول الناجعة لمكافحة هذا التطرف تكمن في إتاحة المزيد من الفرص التعليمية، ولكن يبدو أن الصورة أكثر تعقيداً؛ فعدد كبير من المتطرفين الراديكاليين هم خريجو جامعات، بل إن عددًا غير قليل منهم يحملون درجات علمية مرموقة في الهندسة وغيرها من التخصصات التقنية.

كتب مارتن روز، "زميل زائر" في مركز الأمير الوليد بن طلال للدراسات الإسلامية في جامعة كامبردج، ومستشار "المجلس الثقافي البريطاني" في الشرق الأوسط، ورقة عمل بعنوان "تحصين العقل" Immunising the mind فحصت الأبحاث التي تناولت هذه المسألة في المنطقة العربية، اقترحت الورقة أن هناك ارتباطاً بين تدريس بعض المواد و"العقلية المنغلقة" المميزة للمتطرفين الراديكاليين، كما اقترحت الورقة أن تغيير الطريقة التي تُدَّرس بها بعض المواد، وتشجيع وجهات النظر البديلة والتساؤل، و“أنسنة” تدريس المواد العلمية والتقنية، بجانب التعليم الجيد للعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية -المهملة غالباً في جميع أنحاء الوطن العربي- يمكن أن يساعد في تحصين عقول الشباب ضد التطرف والانخراط في الأيديولوجيات الراديكالية. إذا كان هذا الاستنتاج صحيحاً، فإنه يمكن أن يكون له بعض التضمينات المهمة على السياسات التعليمية.
 
تظهر مراجعة الدراسات في هذا المجال أن نسبة كبيرة من المتطرفين الراديكاليين الذين يمارسون العنف هم أبعد ما يكون من أن يوصفوا بأنهم غير متعلمين، بل إن عدداً كبيراً منهم مؤهلون تأهيلاً عالياً. على سبيل المثال، وجدت دراسة أجريت عام 2007 أن 48.5% من الأفراد المتطرفين الذين تم استقطابهم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هم من خريجي الجامعات، وأن 44% من عينة هذه الدراسة كانوا من دارسي الهندسة، وتشير الأدلة المتداولة إلى أن الإرهابيين البارزين من بعض الأيديولوجيات، لا سيما أولئك الذين يوجدون في أقصى يمين الطيف السياسي على اختلافاتهم، ربما درسوا تخصصات تقنية وليسوا من خريجي الأقسام الدينية أو السياسية.
 
في ورقة عمل "تحصين العقل"، استعرض "مارتن روز" البحوث التي أُجرِيت، وقدم وجهة نظر مقابلة للآراء النمطية السطيحة حول العوامل المعقدة التي تقود الأفراد لأن يصبحوا راديكاليين، وتمثَّل الاستنتاج الأولي للباحث في أن "التعليم" قد يكون عاملاً مهماً في تفسير هذه الظاهرة.
 
وعلى الرغم من أهمية التأكيد أن هذه المشكلة يمكن ملاحظتها في أماكن أخرى من العالم، إلا أنه يمكن استنتاج أن هناك مشكلة خاصة في بعض الدول العربية التي تنفق نحو 20% من الميزانيات الحكومية تاريخياً على التعليم (أعلى من المتوسط العالمي) دون أن تُخرِج أي مستويات عالية من الانجاز والإبداع، أو المهارات التحليلية النقدية التي تُجهز الشباب لتحدي الأيديولوجيات الساذجة أو السطحية.
 
إن فلسفة التعليم في بلداننا تقوم على تقليد الصم أو الحفظ عن ظهر قلب واجتياز الامتحانات، وليس عن طريق التفكير الإبداعي والناقد. علاوة على ذلك، تقليدياً يُنظر إلى تعلم الهندسة والطب وغيرهما من الموضوعات التقنية على أنها تخصصات مرموقة ومتفوقة، مقارنة بالتخصصات الإنسانية مثل الفنون، والآداب، والعلوم الاجتماعية التي تعتبر مهملة إلى حد ما. إضافة إلى ذلك، فإن خريجي الجامعات لا يُجهَّزون بالمهارات الناعمة Soft skills لرفع فرص توظيفهم، والواقع أن الطبقات الوسطى المتعلمة في الشرق الأوسط تعاني من ارتفاع معدل البطالة العالي ومستوى عالٍ من الإحباط.
 
ورغم ذلك، فإن هذه العوامل بذاتها لا يمكن أن تقدم تفسيراً وافياً للتطرف؛ فالموضوعات التقنية على ما يبدو لم تكن ممثلة تمثيلاً مرتفعاً بنفس الدرجة بين المتطرفين الذين لا يتبنون العنف. ويعتقد "مارتن روز" أن هذا يقترح مرحلة إضافية أخرى، وهي أن احتضان العنف قد يكون مرتبطاً بالتعليم في تخصصات محددة، وهي تلك التي تفشل في تشجيع تقصي الأفكار المرسلة أو البراهين ووجهات النظر البديلة، وهناك دراسات أخرى اقترحت أنه قد يكون هناك "حالة ذهنية معينة" تنجذب إلى الحلول البسيطة، وتفتقر إلى الغموض والظلال أو المناقشة في بعض الأحيان الذي يُلاحظ في تخصصات تقنية، هذه الذهنية تكون عرضة للتطرف لأسباب مماثلة.
 
وقد ينجذب الأفراد الذين لديهم هذه العقليات إلى موضوعات معينة في المقام الأول، ولكن كما يبدو من المرجح أن مثل هذه العقليات يُعاد إنتاجها أو التأكيد عليها من خلال طرق التدريس المتبعة في هذه التخصصات. وتقترح الورقة أن تدريس الآداب والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، على الرغم من الإهمال النسبي الذي تعاني منه في البلدان العربية، لها أثر إيجابي في الحد من التطرف بين خريجيها. وربما كانت هذه الحقيقة وراء إلغاء تنظيم "داعش" دراسة القانون، والفنون الجميلة، وعلم الآثار، والفلسفة والعلوم السياسية، من المناهج الدراسية في المناطق التي كانت تسيطر عليها.
 
وبناءً على ما سبق، فقد يتمثل أحد الحلول في زيادة تعريض طلاب ستم STEM (أولئك الذين يدرسون العلوم والتكنولوجيا، والهندسة والرياضيات) لمزيد من المناقشة، والتفكير النقدي، والإبداعي، والتوقف عند الأفكار، والقضايا الأخلاقية والفلسفية غير اليقينية المرتبطة بالعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية. بعبارة أخرى، يحتاج الشباب إلى أن تدرس (كيف) يفكرون لتحصين عقولهم ضد الأيديولوجيات التي تسعى لتعليمهم (فيما) يفكرون.
 
قد يكون هناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها عمل ذلك، سواء عن طريق الابتعاد عن تقليد التعلم عن طريق الحفظ عن ظهر قلب في المدارس، وتشجيع طلاب (ستم) على اتخاذ بعض المقررات في موضوعات العلوم الإنسانية -كما يحدث عادة في العديد من الجامعات الأمريكية والبريطانية، وتشجيع أساليب التدريس التي تستند بدرجة أقل إلى التقسيم الثنائي للأمور "صواب أو خطأ" الموجودة في موضوعات (ستم)، وتعريض الطلاب للأنشطة اللاصفية مثل المواطنة النشطة أو مناقشة البرامج التي تشجع التفكير النقدي ومناقشة القضايا الاجتماعية، وهذا وثيق الصلة بالموضوع، لا سيما في الوقت الذي تلقى فيه تخصصات (ستم) مزيداً من التشجيع والتمويل، مقارنة بالتخصصات الأخرى في العديد من البلدان.
 
على الرغم من أن هذه الأطروحة هي مجرد جزء من صورة أكبر، فإنه من المأمول أن تثير هذه الرؤية مزيداً من النقاش حول أسباب التطرف والأيديولوجيات الراديكالية ودور التعليم في مقاومته وتحصين عقول الشباب ضده.

هل استفدت من المعلومات المقدمة في هذه الصفحة؟

0 من أصل 0 زوار أعجبوا بمحتوى الصفحة